فلسطين في مرآة الثقافة الفرنسية 1948\2018

دراسة مطولة نُشرت كجزء من كتاب جامع صدر لمناسبة الذِكرى 70 لنكبة فلسطين عن مؤسسةالفكر العربي

غاية هذا البحث هي توضيح الصورة التي ارتسمت لفلسطين في أذهان الفرنسيين من خلال ملامح انعكست في مرآة الثقافة الفرنسية، والأصح القول في مرايا الثقافة الفرنسية. والصورة في هذه الحالة لا تكون واضحة كالصورة الفوتوغرافية. هي صورة مضطربة تتشكل من روافد شتى، ولا تتضح معالمها بسرعة أو بوقت قصير. وقد تتكوّن من عدة صور مختلفة ومتغيرة بتغير الحقبات التاريخية التي كانت تُرسّم فيها. فلسطين المعنية بالصورة هنا، ليست فلسطين التي عرفها العالم قبل ولادة دولة إسرائيل، بل هي فلسطين التي لابستها إسرائيل حتى التبست صورتها وأُريدَ أن يُمحى اسمها ليصبح إسرائيل. فلسطين هذه، تحضر في صلب المسألة اليهودية وفي تقاطعها مع مسألة تحرر المستعمرات الفرنسية، وتمتزج مع واقع وتاريخ المجتمع الفرنسي نفسه. وصورتها فلسطين في مرآة الثقافة الفرنسية تظهر من خلال الإعلام والفنون والأدب والسينما وما تصدره دور النشر الفرنسية من نتاج وفكري سياسي

ويصعب في هذه القضية فصل الثقافي عن السياسي. فكل نشاط ثقافي تلابسه السياسة وتتشابك معه. لذا فصّلنا جوانب تاريخية محددة شكلت أرضية لمواقف السياسيين والمثقفين الذين استشهدنا بهم. والمثقفون هم أولئك الكتّاب والفلاسفة والجامعيون والفنانون والمتخصصون في العلوم، والذين اكتسبوا بفضل حضورهم الإعلامي، سلطة معنوية تسمح لهم بالتأثير على الرأي العام. والإعلام هو العامل الأساسي في تكوين الراي العام. هذا ما فهمته الصهيونية باكراً. فكان لسيطرة مؤيدو إسرائيل على الأدوات الإعلامية التي امتلكوها واستخدموها في تعتيم الحقائق أو في تحريفها. لذا سعينا الى توضيح بعض آليات السيطرة على وسائل النشر والإعلام الفرنسي
وتتراوح ملامح الصورة في أذهان الفرنسيين بين حدّين: الفعل اليهودي-الصهيوني في رسم صورة فلسطين في الثقافة الفرنسية، والفعل الفلسطيني- العربي. وهذا ما فرض معالجة أمور بعينها كالإرهاب واللاسامية. وانتقينا حوادث معبّرة أثّرت في إنضاج صور عن فلسطين بقيت في الأذهان وشكل تراكمها على مدى سبعين سنة (1948\2018) ملامح الصورة الحالية للشعب الفلسطيني وقضيته في مرآة الثقافة الفرنسية

كيف كانت الصورة قبل النكبة الفلسطينية عام 1948؟ 
 لم تأتِ الأدبيات الفرنسية على ذكر فلسطين إلا لماماً قبل أن يحوم حولها شبح الصهيونية. أصل العلاقة بين فلسطين وفرنسا هي علاقة الحج إلى الديار المقدسة حيث ولد المسيح. وكانت فرنسا قد حصّلت امتيازات وأدواراً في المشرق العربي، وفرضت نفسها كحامية لمسيحيي الشرق وللأماكن المقدسة. فكان من الطبيعي أن يُطرح سؤال فلسطين عندها من زاوية ارتباطه بالقدس، المدينة التي تميّزت عن غيرها من المدن بوفرة الرسوم واللوحات التي خلّدتها. ولئن كانت كتابات الرحالة من دبلوماسيين وفنانين ومصورين وباحثين عن الثروة تتضمّن شيئاً عن أماكن الحج، إلا أن معظم هذه الكتابات كانت تدور حول وصف طبيعة فلسطين الجغرافية وجمالها، ووصف عادات الناس وتقاليدهم. وأيضاً، حول « الفِرَق والمذاهب والطوائف المسيحية » و « ديانة المسلمين وعاداتهم ». هذا ما يقوله فرنسوا لابلانش في كتابه « من حكايات الرحالة إلى الأرض المقدسة ». ولا يتحدث المؤلف عن الرحالة الأدباء أمثال شاتوبريان ولامارتين وفلوبير، بل تعداهم إلى من هم أقلّ شهرةً، مشيراً على نحو خاص إلى انطباعاتهم الشخصية. فكانت صورة عن فلسطين معلّقة في الخيال الرومنطيقي. ولم تكن صورتها عند الرسامين والمصورين تختلف عن صورة الشرق برمته: حريم سلطاني وبلاد مسيَّبَة… 

لكن هناك عامل تدخل في رسم الملامح الأولية لصورة فلسطين، وهو أن لفرنسا علاقات وطيدة مع يهود المنطقة العربية، تعود إلى عهد نابوليون (1800) ووعوده بتحريرهم من نير الاضطهاد الكاثوليكي، ثم إلى حرب الجزائر التي بدأت في العام 1830 وما رافقها من إجراءات فرنسية لشق صفوف الجزائريين، إذ منحت يهود الجزائر امتيازات كبيرة (من بينها الجنسية الفرنسية)، وسلمتهم مناصب إدارية وعسكرية لمساعدتها على تثبيت أقدام الاحتلال الفرنسي للجزائر فكان لهم فيما بعد، تأثير عميق في رسم صورة فلسطين. ومعلومٌ أن الفرنسية هي اللغة الأم ليهود فرنسا، لذا كان نتاجهم الثقافي أغزر بكثير مما يمكن للفلسطينيين أن يقدّموه من نتاج ثقافي وفكري باللغة الفرنسية

صورة فلسطين في الفترة بين وعد بلفور وإنشاء دولة إسرائيل 

انضوى الكتّاب الفرنسيون في منطق السردية الصهيونية. كتاب جوزيف كيسيل الصادر في 1924 بعنوان « أرض الحب والنار » يمتدح بحماسة مساهمة المستوطنين العلمية والتقنية. وكذلك كتاب ألبير لوندر بعنوان « اليهودي التائب وصل » الصادر عام 1930. وعلى وقع الجرائم النازية تجاه اليهود في أوروبا تحول همّ التعويض المادي والمعنوي لهم نحو دعم « هجرتهم »  الى فلسطين. ولعبت الدعاية الصهيونية ببراعة على كل الأوتار. فنجحت في تمرير السيطرة على فلسطين كأنها معركة شعب من أجل التحرر الوطني. وقدمت صورة عن الفلسطينيين كأنهم بشر لا يستحقون الاهتمام، يعاونون الإمبريالية البريطانية ويتعاملون مع النازية. وهم ليسوا أكثر من « أهل الأراضي المقدسة » أو « مجموعات السكان غير اليهود » أو « جماعات عربية موجودة في فلسطين »
الأكثرية الساحقة من الشعب الفرنسي والصحف ورجال الفكر والسياسة وقفت بجانب اليهود ودعم مشروع إنشاء دولة إسرائيل. وشمل دعم الفكرة الصهيونية أحزاب اليمين واليسار على السواء. الاشتراكيون كانوا يتماهون ايديولوجياً مع اليسار الصهيوني منذ وقت طويل. أما الشيوعيون وبالرغم من موقفهم المبدئي ضد الصهيونية، فقد مالوا الى الاعتقاد بأن الكفاح الصهيوني في فلسطين يستكمل الكفاح اليهودي ضد النازية

ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية سنة 1945 تزايدت الهجرة السرية لليهود لدرجة بات فيها النازحون اليهود قضية من القضايا الساخنة. ففي تموز 1947 انطلقت من مدينة سات  الفرنسية نحو فلسطين الباخرة أوكزودوس، وعلى متنها 4500 يهودي، تصدى لها البريطانيون وأجبروا ركابها الإبحار والعودة الى فرنسا. فاستغلت الحركة الصهيونية الصاعدة تشدد البريطانيين وأخطاءهم في التعامل مع الركاب. وتابع الإعلام ما يجري على مدار الساعة. فأحدثت القضية وقعاً عظيماً على الرأي العام الفرنسي. أفرز موجة تضامن عارمة شملت تقريباً كل القوى الاجتماعية والسياسية. فكانت تظاهرات حاشدة جمعت الاتحاد العمالي العام وكل المجموعات اليسارية والحزب الشيوعي الفرنسي. علّق يومها رئيس الوزراء الاشتراكي ليون بلوم في البرلمان « أن الرأي العام بمجمله قد جُرحت مشاعره وينحاز نحو العدالة والرأفة ». وقد شغلت الباخرة أوكزيدوس الناس كامل صيف 1947 وأظهرت مشاعر معادية للبريطانيين بسبب دورهم في سحب القوات الفرنسية من سوريا ولبنان

المثقفون الفرنسيون والفكرة الصهيونية
 وكانت حقبة وجد فيها المثقفون الفرصة لتكريس صورة المثقف الذي يلتزم قضايا عامّة وينفذ مهام نضالية كتوقيع عريضة أو توزيع منشور. فساهموا في الحملات الإعلامية الواسعة التي تميّز فيها مراسلون مثل جوزيف كيسل وفرنسوا مورياك في جريدة الفيغارو. الأخير، وصف الصهيوني الذي وصل الى فلسطين ب »مخصّب الصحراء ». وازدهر نشاط الجمعيات الصهيونية المنبثقة عن الأحزاب اليهودية، فشكلوا مجموعات ضغط. أثّرت هذه الأجواء على المثقفين وفتحت لهم أفاقاً للعمل، ولاسيما بعد ازدياد عدد الصحف والمنشورات. لكن غالبيتهم تمنّعوا عن الانخراط في الخلافات الداخلية للجمعيات الصهيونية المتنافسة. ولم يثنِ ذلك الجمعيات عن العمل للاستفادة من قدراتهم. فلم يقدّر بعضهم خطورة أن يتقبّل مآلات الفكرة الصهيونية حق تقدير، وتعارض بعض طموحاتها مع مفاهيم والتزامات المثقف نفسه. في ذاك الزمن لم تتوانى فصلية « الأزمنة المعاصرة  » عن المقارنة بين المقاتلين الصهاينة في فلسطين والمقاومين الفرنسيين
وكان هناك أصوات قليلة وخافتة تأتي من بعض الكاثوليكيين. فلم يكن أحد يهتّم بمساجلة طروحات لوي ماسينيون  وكان من الأقلية التي اعترضت على شرعية دولة يهودية في فلسطين، معتبراً إسرائيل زرعٌ استعماري في الشرق الأوسط يخدم سيطرة الغرب

فلسطين، صورة غياب
لم يكن لفلسطين حضور في المرآة الفرنسية. إنها صورة غياب. وإن ظهرت فتكون على شاكلة صورة مشوهة وغير صحيحة. وتغيب عنها ملامح أصيلة عبّر عنها المؤرخ الياس صنبر في « قاموس في حب فلسطين « . وفيه رصد العطاء الثقافي الفلسطيني قبل نكبة 1948، وهو عطاء من نخبة حداثوية عبّرت عن وعي يختزن كونهم في أصل الديانات التوحيدية. وعكست خصوصية حاضرهم وتنوع لهجاتهم وقصصهم النضالية المحلية. وبرهن عن انسجام نتاجهم مع الموروثات الثقافية العربية والعالمية
رغم ذلك، رسم المحتل اليهودي/الصهيوني، صورة أول ملمح من ملامح فلسطين: « إنها أرضٌ بلا شعب ». ولم يكن الفلسطيني في حلبة الصراع على رسم الصورة، فترسخت صورة على النحو الذي يوافق المشروع الصهيوني. لاحقاً، وللإجابة عن سؤال تلقاه من إمرأة فرنسية « من هم الفلسطينيون ومن أين أتوا؟ » أعدّ كزافييه بارون الصحافي في وكالة الصحافة الفرنسية كتاباً عن: « الشعب الذي نسي العالم وجوده. اُستعمر وأُخرج من أرضه ورفضوا له الحق في وطنه. وصار ألعوبة في أيدي الدبلوماسية الغربية والعربية ». لم يفضح الكاتب ممارسات إسرائيل بحق الفلسطينيين فحسب، بل فضح أيضاً « الضمير الغربي الذي يغمض عينيه ويعطّل ضميره كلما كان من واجبه أن يصحح سير التاريخ وأن يوعي الأجيال الناشئة بخصوص قضية فلسطين »

كيف كانت حال الساحة الثقافية والسياسية قبل حرب عام 1967
اتجهت فرنسا في عهد الجمهورية الرابعة إلى عقد تحالف ضمني مع إسرائيل. فسلحتها بكثافة وقدمت لها تكنولوجيا القنبلة الذرية. وحظي ذلك بتأييد واسع من الطبقة السياسية الممتدة من اليسار اللاشيوعي الى اليمين المتطرف. كما دعمت الحركة الديغولية الصاعدة المشروع الصهيوني. ونذكر من قياداتها: بيار كوينغ، جاك دو سوستال، جاك شابان دلماس، ميشال دوبريه، روجيه فريه… حتى المثقفون الذين كانوا يحتجون على سياسة الحكومة في الجزائر وعلى صوابية الهجمة الثلاثية ضد مصر حاذروا انتقاد إسرائيل. كمثل جان بول ساتر، ريمون أرون، فرنسوا مورياك. وكانت علاقة فرنسا مع الدول العربية سيئة باستثناء لبنان. وفي هذا المناخ المعادي للعرب ظهرت في مجلة « إسبري » عام 1958 مقالة للفيلسوف الروائي بول ريكور أعتبر فيها أن « الأمم المتحدرة من المسيحية بمصادقتها على إنشاء دولة إسرائيل فهي سددت ديناً مزدوجاً: دين يتعلق بشعب التوراة ودين يتعلق بعقدة الذنب حيال ضحايا الاضطهاد اللاسامي. ولكن حلّها للمسألة اليهودية بهذه الطريقة تسبب بنزاع يهودي عربي لم تقدر ثقله المستقبلي »
وفي حكومات ديغول الأولى، كانت بصمات الوزراء الصهاينة حاضرة. لكن نهاية حرب الجزائر عام 1962، فتحت الباب أمام تحسّن ايجابي للعلاقات مع الدول العربية. بالإضافة الى التطور النوعي الذي تجسد في الانتقال الى الجمهورية الخامسة وانتخاب رئيس الجمهورية مباشرة من الشعب، أدّى ذلك، إلى إطلاق يد ديغول في تحديد السياسات الخارجية. فبعد انسحابه من الناتو، وانتهاجه سياسة مستقلة ومنفتحة على الاتحاد السوفياتي، طوى ديغول تدريجياً ما كان يمكن تسميته بالعصر الذهبي لإسرائيل في فرنسا. فأخضع علاقة البلدين لعقلانية اقتصادية. وأوقف تدخّل إسرائيل في أجهزة الجيش. وقد ذكر في مذكراته « أنه أوقف الممارسات المغايرة لأُصول التعاون العسكري، تلك التي كانت قائمة منذ حرب السويس بين تل أبيب وباريس وكانت تُشرك الإسرائيليين على الدوام في الاجتماعات العسكرية انسجاماً مع مبدأ سيادة الدولة

      كيف تبدت الصورة في مرحلة حرب 1967 
المنشورات الدعائية الصهيونية كانت تتحدث عن الفلسطينيين باعتبارهم مجموعات عربية تركت منازلها إرادياً، أو انسحبت لكي تسهل دخول الجيوش العربية. اللاجئون منهم، يحق لهم من الزاوية الانسانية الاستفادة من الحقوق التي أقرتها الأمم المتحدة. ولكنهم وفي كل الأحوال، لا يشكلون مع باقي الفلسطينيين شعباً، كالشعب السوري أو اللبناني. ورُصدت بعض الإرهاصات لتحرك الطلبة الفلسطينيين في الجامعات الباريسية، ونُظمت ندوة في مقر المؤتمرات « الميتوياليتيه » شارك فيها المؤرخ مكسيم رودنسون. دعت الندوة العرب إلى النضال ضد معاداة السامية وضد الصهيونية، فردت المنظمات الصهيونية بعنف، وانتقدوا التمايز الذي أقاموه بين الديانة اليهودية والصهيونية، معتبرين أنه محاولة تصنيف بين اليهود شبيهة بأسلوب النازية. بعد انتهاء العمليات العسكرية، كان لريمون آرون رأي في جريدة الفيغارو، لعله يعكس الأجواء السائدة حينها: « لم أحبذ مظاهرات الشباب التي كانت تهتف اسرائيل ستنتصر وهي تجوب الشوارع وخاصة في الشانزليزيه. ولا الحشود أمام سفارة اسرائيل. ولم أحب مشاركة من كان يتمسك بأن تبقى الجزائر فرنسية والتواقين لغزوة السويس وكانوا يستكملون حربهم ضد العرب عبر دعمهم اسرائيل »
وشهد الإعلام الفرنسي في هذه الفترة حملة هوجاء لم تخلُ من عفونة عنصرية ضد العرب « ورثة النازية »،  « ونواياهم باستكمال القضاء على الشعب اليهودي« . ولا تُحصى افتتاحيات الصحف والمقالات والتحقيقات والعرائض ورسائل القراء والتعليقات. بحسبهم « العرب عالم مليء بالتناقضات والاضطرابات والشعوذة، يعيشون على أرض جافّة خانعين لقدرية قرآنية مند قرون »، « لا أمل بشفائهم »، « فلسطين أبلغ مثال إذ حوّلوها خلال ألفين عام من جنّة من الذهب والعسل الى سهوب قاحلة ». لم يعبأ مثقفو اليسار كثيراً للغة الكراهية التي طالت العرب ولاستعادة مفردات: النذالة والكسل والبشاعة والقذارة والجشع والنفاق وهي صفات كانت تستخدم ضد اليهود. دعامة هذه الدعاية كانت عصبة فرنسية تضم الى جانب سياسيين من ذوي الميل الديغولي والوسطي، نخبة الأنتلجيسيا الفرنسية: جان بول ساتر وسيمون دو بوفوار، ريمون أرون وفلاديمير جانكيلفيتش، ايمانويل مونيه، وجاك مادول، وبول كلوديل وجول رومان… وقد يثير الدهشة اليوم تواجد مثل هؤلاء المشاهير في هيئة منظمة واحدة

حال المثقفين وأسئلتهم المفتوحة 
كثرت نصوص وضعها مؤلفون يهود كانت تدور على العلاقة بين دولة إسرائيل واليهود. ريمون أرون رفض أي نازع الى الولاء المزدوج. عالم الاجتماع جورج فريدمان والروائي روجيه ايكور اعتبرا أن الاندماج والاستيعاب في المجتمعات الأصلية مسألة حتمية. على العكس من هؤلاء، لم يجد ألبير مامي، وهو صهيوني من أصل تونسي، علاجاً سوى القبول بازدواج الولاء ودفع « ضريبة قومية ». وكان رأي لافت للأكاديمي جاك بيرك « في حرب الستة أيام كان الجميع يعتقد بمسؤولية العرب في اندلاع الحرب. فيما بعد، علمنا أن الأمر كان عكس ذلك »… حينها « واجهت في مقابلة إذاعية دانيال ماير الذي لم يكن يتقبّل أي موقف يخرج عن الوحدة المقدسة التي ارتسمت. وأبدى خجله من كونه فرنسياً. فلم أتحمل كلامه »، « كان يظهر لي أن هناك تناقضاَ في أن يكون المرء مواطناَ فرنسياَ يبحث عن أرض بعيدة خارج فرنسا، بالإضافة الى أنها أرض يسكنها آخرون ». كما « حزنت من موقف أحد الصحافيين اليساريين الذي اعترض على تدخل ديغول لمنع انطلاق طائرات تنقل متطوعين فرنسيين. لم يكن هذا الجنون نابع من قناعات دينية لدى مواطنين فرنسيين يهود. فماذا وجد المثقفون اليساريون في الصهيونية ودفعهم الى مثل هذه الترهات وأبعدهم عن أي حوار موضوعي؟ ». “وجدت في فكرة التعويض لليهود كذباً وسفسطة، فالعرب لا ناقة لهم ولا جمل فيما فعله هتلر. لماذا لا نسمي الأشياء بأسمائها؟ …أنها عملية استيطانية ». وتساءل « لماذا نستبعد فكرة مراجعة موقفنا؟ هذا ما فعلناه في ما عنى الموقف من الجزائر ومن غيرها

من جهة أخرى، يمكن لنا اعتبار صدور عدد خاص من مجلة « الأزمنة المعاصرة »  محطة بارزة في حضور القضية الفلسطينية على الساحة الثقافية الفرنسية. وكان يدير تحريرها الفيلسوف الوجودي جان بول ساتر. غير أن هذا العدد الخاص جاء مخيّباً لآمال مؤيدو الحق الفلسطيني، فباستثناء « التضامن مع العالم العربي في سعيه لتحقيق سيادته »، لم يتّخذ أي موقف مؤيد لهم، لا بل أنه على النقيض من ذلك، أشار إلى « إعجابه بنضال إسرائيل ضد الإنكليز »، وعملت افتتاحية العدد على التقليل من شأن مأساة فلسطينيي غزة بجعلها « موازية لقلق سكان الكيبوتزيم ».
وتمثّلت معارضة المشروع الصهيوني من الكاثوليكيين المتحلقين حول اسبوعية « الشاهد المسيحي »  التي نشرت عدّة ملفات، وكانت تواجه صعوبة في إسماع صوتها. فبعد سقوط الناصرة أبدى لوي ماسينيون خشيته على مصير الأماكن المقدسة. وكان له الفضل في لفت الانتباه إلى مأساة اللاجئين الفلسطينيين. كتب في هذه المجلة جورج مونتارون وكلود بورديت الذي تطور موقفه من صهيوني الى معادٍ لها ثم الى قيادة جمعية فرنسا\فلسطين 
وبرزت أسماء من اليسار الديغولي: جان دبوبريدال وفيليب دو سان روبير. ومن الحزب الشيوعي الفرنسي الذي دعم الناصرية، لأنها « انخرطت في الطريق اللارأسمالي « . بالإضافة إلى  الأكاديميين المستعربين أمثال جاك بيرك ومكسيم رودنسون الذين ساهموا بتنوير الرأي العام بخصوص الأصول العميقة للنزاع
وعلى العموم، بعد احتلال أراضٍِِ جديدة بدأت الأعين تتفتح على صورة جديدة للواقع الفلسطيني. لكن الأخبار عمّا يجري هناك بقيت مطموسة في الإعلام الفرنسي، ولم تظهر إلا من باب المتفرقات عن أعمال عسكرية للفدائيين. وقامت تحركات للطلبة الفلسطينيين داخل الجامعات الباريسية. كما نُظمت ندوة في مقر المؤتمرات « الميتوياليته » بمشاركة مؤرخين مختصين في الشرق الأوسط، نذكر منهم مكسيم رودونسون، ودعت هذه الندوة العرب إلى النضال ضد معاداة السامية وضد الصهيونية. لكن المنظمات الصهيونية ردّت بعنف متهمة الطلاب العرب « بتجاوز حدود الضيافة الفرنسية » وانتقدت « التمييز الذي أقاموه بين الديانة اليهودية والصهيونية »، ووصفته بأنه « أسلوب استعملته النازية « 
وبعد انتصار إسرائيل في حرب الأيام الستة، توسّل الموقف الرسمي الفرنسي الحياد، ولم يتبع انجراف الإعلام. فحصل ما يشبه توزيع الأدوار: الرأي العام مع اسرائيل والحكومة محايدة. الجدير بالذكر أن استطلاع رأي أُجري في 5 و6 حزيران 1967 دلّ أن 58 في المئة من الفرنسيين يميلون الى تأييد اسرائيل في حين أن فقط 2 في المئة يؤيدون العرب

الصورة من حرب 1967 الى اجتياح لبنان عام 1982
تفاعلت المواقف السياسية الرسمية مع الصراع العربي الإسرائيلي. وتميّزت فرنسا بكونها الدولة الغربية الوحيدة التي لم تتبع السياسة الأمريكية الداعمة بشكل أعمى لإسرائيل. وأعلنت رفضها لاحتلال الأراضي العربية وضمّ القدس. فشكّل مؤيدو إسرائيل مجموعة ضغط ضمّت المؤسسات اليهودية ومعظم وسائل الإعلام ونحو 150 نائباً بينهم العديد من الديغوليين. لم تثنِ هذه الضغوط ديغول عن متابعة سياسته المستقلة. فعندما قامت اسرائيل بضرب الأسطول الجوي المدني في مطار بيروت عام 1968، تشدد ديغول في سياسة حظر الأسلحة على إسرائيل، فتصاعدت الحملات في وجهه. وقد أثّر ذلك جزئياً في النتيجة السلبية التي حصدها في استفتاء 1968 والتي دفعته الى الاستقالة. جاء من بعده جورج بومبيدو الذي لم يَحد عن سياسة ديغول، فيما عدا تخفيف إجراءات الحظر. وسار الرؤساء فاليري جيسكار ديستان وفرنسوا ميتران وجاك شيراك على سياسة مستقلة تدعم في المحافل الدولية، مبادرات العرب بما يخص الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني. ولم يظهر التبدل في الموقف الفرنسي إلا مع نيكولا ساركوزي. وبرزت شخصيات سياسية لعبت أدواراً هامة على الساحة الدولية أمثال موريس كوف دومرفيل وموريس شومان وميشال جوبير وكلود شيسون ورولان دوما، ودومينيك دوفيلبان
على الساحة الإعلامية، تجددت خلال حرب أكتوبر1973 الحملات والمواقف المنحازة والتظاهرات الشعبية ضد « الإعتداء العربي »، وانخرط فيها عدد من المثقفين الفرنسيين. واجهة المشهد احتلها أمثال أندريه ناهير وأرنولد ماندل الذين أصبغا صفة القداسة على الدولة اليهودية وأجادا استعمال تهمة اللاسامية. ونال مكسيم رودنسون على نحو خاص نصيباً من الشتائم التي لا نظير لها في الدناءة لكنه لم يتراجع أمام الضغوط
وكان استطلاع للرأي قد أظهر في 15 أكتوبر 1973 أن نسبة 45 في المئة أيدت إسرائيل و16 في المئة العرب 

لم يمنع طغيان الدعاية والتأييد لإسرائيل من طرح أسئلة جوهرية فرضها واقع احتلال أراضٍٍٍ عربية جديدة. وعلى الرغم من نفور عالم الأناسة كلود ليفي ستراوس من العرب، فقد أدان انخراط أعيان ووجهاء الإعلام في نشر دعاوة الحكومة الإسرائيلية: « لا يمكن لي بالطبع أن أستشعر عملية تدمير الهنود الحمر مثل جرح في خاصرتي، وأن أتعاطى بطريقة معكوسة عندما يتعلق الأمر بعرب فلسطينيين ». ولم يتوقف المؤرخ بيار فيدال ناكيه عن انتقاد سياسة الاستيطان والضم. غير أن « الفلاسفة الجدد » أمثال برنار هنري ليفي، أندريه غلوكسمان وألان فنكلكروت لم يجدوا أدنى مشقة في الهيمنة على الساحة الإعلامية. فمارسوا عزفهم الذي يقوم على تثبيت التفوق الأخلاقي للغرب. وطرحوا اللاسامية كأمر ثابت لا تغيره أحداث التاريخ. وقدموا الإنسان اليهودي على أنه ضحية في كل الأزمنة والأمكنة. وسعوا بتكرار ممل الى قلب المسؤوليات والأدوار بين إسرائيل والفلسطينيين

 ودخلت على الساحة الثقافية بعض المشاهد الفلسطينية
بعد اعتراف الأمم المتحدة في تشرين الثاني 1974 بتمثيل منظمة التحرير الفلسطينية للحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، افتتحت فرنسا مكتب للعلاقات معها في العام 1975. ومن المشاهد الفلسطينية نشير إلى « جائزة فلسطين محمود الهمشري » الأدبية التي أتت بمبادرة من « جمعية التضامن الفرنسي العربي » ولوسيان بيترلان رئيس تحرير مجلة « فرنسا والدول العربية”. وصدرت عام 1981 « مجلة الدراسات الفلسطينية » الفصلية باللغة الفرنسية التي دعمها صاحب دار النشر مينوي (édition minuit) جيروم لندون، وشجعها كتاب كبار ومفكرون مثل جان جينيه وجيل دولوز وفرنسوا شاتليه وبيير فيدال ناكيه ومكسيم رودنسون وجان ماري لوكليزيو

ملامح الصورة في الثمانينات 
 شكّلاجتياح لبنان عام 1982 منعطفاً في إدراك صورة النزاع الإسرائيلي العربي. وكانت شطحات العمليات العسكرية والصور المعروضة عن حصار بيروت وعن رحيل المقاتلين الفلسطينيين وخصوصاً عن مجزرة صبرا وشاتيلا، تثير تياراً من التعاطف مع الضحايا. وتولى الفلاسفة الجدد مهمة حرف الانتباه عما يجري على الأرض. فبالنسبة إلى برنار هنري ليفي وألان فنكلكروت كان مجرد التلفظ بكلمة « إبادة » لوصف الفظائع الإسرائيلية، ومجرد نعت مناحيم بيغن وآرييل شارون بأنهما أشبه بالفاشيين، يثبت في نظرهما أن حرب لبنان لا تعدو أن تكون سوى عدوان لفظي وكلامي على إسرائيل. وبعد أشهر فقط على مجزرة صبرا وشاتيلا، استعاد الإعلام عادته القديمة مضيفاً نغمة جديدة، أتاحتها له المواجهات بين سوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية. فاستفاضت المقالات الصحفية بمطولات الشفقة على الفلسطينيين دون الإشارة إلى الجلاّد الحقيقي، ومن دون التحدث عن الوضع في الضفة الغربية وقطاع غزّة
وعلى العموم، باتت وجهة النظر الفلسطينية تحظى بتفهم أكبر من المثقفين، ومن أوساط واسعة في الرأي العام اليساري. وكسبت أصحاب شان ونفوذ في الساحة الثقافية. فبرزت مواقف قوية الدلالة للفيلسوف جيل دولوز في مجلة الدراسات الفلسطينية إذ عدّد المظالم التي كابدها الشعب الفلسطيني، وذكّر بأعمال العنف الصهيوني وما رافقها من تعليلات خاطئة. ونبه إلى « أن تحويل أكبر إبادة في التاريخ الى شر مطلق ينمّ عن رؤية دينية وصوفية وليس عن رؤية تاريخية. وهي لا توقف الشر، بل على العكس تنشره وتجعله يقع على أبرياء آخرين. كما تتطلب تكفيراً عن الخطأ يلقي على هؤلاء الآخرين قسماً مما كابده اليهود، كالطرد والحجز في معازل بشرية والاختفاء كشعب ». وأيّد الفيلسوف فرنسوا شاتليه الحل الداعي الى نشوء فلسطين علمانية يكون كل سكانها، يهوداً وعرباً، مواطنين متساوين في الحقوق

وكشفت انتفاضة الحجارة عام 1987 وجود الشعب الفلسطيني، وثبّتت في الأذهان صورة إسرائيل كقوة احتلال. فجاء عدم التناظر بين راشقي الحجارة من الشبان وبين ماكينة الحرب الإسرائيلية الهائلة، ليستثير موجة من التعاطف مع الفلسطينيين، ويكوّن إدراكاً أكثر إيجابية عنهم. غير أن الصورة عنهم تبقيهم في عداد العرب وفي عداد المسلمين. والحال أنه إذا كان هناك معطى اجتماعي يحظى ببعض الاستقرار في فرنسا، فهو بالضبط العنصرية المعادية للعرب، والتي لا تنفصل عن عقدة رهاب الإسلام (الاسلاموفوبيا) العميقة الجذور. هذه العنصرية بالذات راحت تتغذى من الركود الاقتصادي ومن تبدل طبيعة الهجرة المغاربية وتحوّلها من هجرة مؤقتة إلى هجرة نهائية. والميل إلى الانتقاص من قيمة العرب هو الذي مهّد إلى تمثّل المسألة الوطنية الفلسطينية في الإسلام، وتمثّل الإسلام في الإسلاموية، والإسلاموية في الإرهاب

احتدام الصراع على ملامح الصورة 
تأثرت النظرة الى الفلسطينيين في التسعيناتسلباً بسبب أزمة وحرب الخليج، ثم عادت وتعززت بعد توقيع اتفاقيات أوسلو، قبل أن تفقد بريقها، بسبب الانقسامات الفلسطينية الداخلية. وكان المناصرين لإسرائيل قد بنوا استراتيجيتهم على التلويح بخطر مزعوم يمثّله المسلمون ويهدد العلمانية والمُثل الجمهورية. واصطنعوا تقارباً بين تهمتي اللا سامية والتعصب الإسلامي. وعلى الرغم من محافظة الفلسطينيين على تأييد قسم لا يستهان به من المثقفين من بين الأكثر حضوراً. بقي تأييدهم قليل الفعالية. وباتوا حائرين أمام تبدد القضية الفلسطينية بواسطة « عملية سلام » مزعومة. وأسلمة على الطريقة الأصولية
غير أن صنّاع الرأي المؤيدين لإسرائيل ما عادوا يعترضون على وجود شعب فلسطيني ولا على حقه في دولة. لأنهم تيقنوا أن الدولة الجديرة بهذه الصفة، قد ماتت قبل أن ترى النور، بسبب سياسة الاستيطان التي اتبعتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بالرغم من المناشدات الفرنسية والأوروبية. وكان لسيطرة الصهاينة على الأدوات الإعلامية الفرنسية أن استخدموها في تعتيم وتحريف الحقائق 

لكن ومن جهة مقابلة، كانت حضرت اسهامات فكرية في جريدة لوموند ديبلوماتيك التي عُرفت بموضوعيتها تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في عهد كلود جوليان ثم اغناسيو رامونيه. وصحافييها أمثال سرج حليمي ودومينيك فيدال والآن غريش وغيرهم. وكثرت الندوات التي تقيمها مراكز البحوث الجامعية والجمعيات المتضامنة مع الحق الفلسطيني وأحياناً معهد العالم العربي. 
وازدهرت حركة الترجمة الى اللغة الفرنسية. فإذا كانت الثمانينات قد شهدت ترجمة 251 من الأعمال العربية وفي التسعينات 400 عملاً، فقد وصل ما نشرته دار »أكت سود » (َActes Sud) وقسمها العربي سندباد وحدها، إلى 389 عملاً. ونذكر من دور النشر التي ازداد اهتمامها بقضية فلسطين دار هرماتان، دار لا دكوفرت، دار ميزون نوف لاروز، دار مسيدور، غاليمار. ولا ننسى اصدارات الاونسكو. أما باقي دور النشر، فتصدر ترجمات من حين لآخر وعلى فترات متباعدة

   الإرهاب والعنصرية والعداء للسامية عناوين لتشويش الصورة
وأنتقل الصراع على الصورة إلى ساحات فكرية وثقافية جديدة. لكن جوهره بقي واحداً: هوية فلسطين. الإرهاب والعنصرية مقرونان في المقام الأول بالانغلاق على الهوية، سواء كانت هذه الهوية دينية أم قومية. وكل قومية تبالغ في تعظيم هويتها تتحول إلى عنصرية محض. وتتفاقم الخطورة عندما تتحول إلى إيديولوجيا تنسج الأوهام والاساطير كما فعلت الصهيونية بالهوية اليهودية. فهي لا ترضى بتقاسم الأرض مع أية هوية أخرى. في حين أن الفلسطينيين يرضون بأن تتسع فلسطين، بلاد الهويات الدينية والعرقية واللغوية المتآخية عبر مئات بل آلاف السنين، لهم ولغيرهم 
تزعم الصهيونية إن إسرائيل هي ضحية الإرهاب، في حين أن فلسطين هي الضحية. ولكن، ليس في عصر العولمة، ما هو أكثر عولمةً من الأكاذيب. فقد صدّق العالم بأن فلسطين أصل الإرهاب وبأنها لا تاريخ لها ولا شعب. وصدق العالم هذا التضليل العظيم بفعل الآلة الإعلامية الصهيونية التي تهيمن على الإعلام, والتاريخ الحديث حافل بالشواهد على الإرهاب الديني، ومن آخر تجلياته: داعش في البلدان الإسلامية ومشروع دولة القومية اليهودية. هكذا تحولت الايديولوجية الصهيونية إلى مشروع عنصري فاقع. وهو رسمٌ لنظامٍ فصلٍ عنصري (أبارتايد) يكرس العرب في الأراضي المحتلة كمواطنين من الدرجة الثانية. ويعتبر « تطوير المستوطنات قيمة وطنية » ويدعو إلى « تشجيعها ودعم إنشائها ». يضع « قانون القومية » المؤدلجين للصهيونية في موقف فكريّ ملتبس وحرج. ويطيح بمنظومة اعلامية كاملة صوّرت الدولة العبريّة كمنارة لديمقراطيّة مبنيّة على القيم الانسانيّة. كما يكشف الوجه الاستعماري القائم على الاستيلاء على الأراضي والموارد وتدمير شروط عيش من هم غير يهود

تلصِق الصهيونية بصورة فلسطين عيوباً هي عيوب الصهيونية نفسها. فهي تزعم أن اليهود هم الشعب السامي الوحيد في الشرق، ولا يحق لشعوبه الأخرى أن تنتسب إلى السامية، في حين أن فلسطين لا يمكن أن تكون معادية للسامية، وإنما معاداة السامية تقع عليها قبل أن تقع على اليهود
عقدة معاداة السامية تزيد الصورة غباشاً لدى الفرنسيين. إذ يُتهم كل من يعادي إسرائيل بأنه معادٍ لليهود. وللتوضيح: السامية ليست حكراً على حفدة نوح من أبناء سام دون أبناء أخويه الآخرين حام ويافث. لكن الصهاينة يزعمون أن السامية حكرٌ على اليهود وحدهم، مع أنها تضم إلى اليهود، العرب والأشوريين والكلدانيين والكنعانيين والبابليين والفينيقيين. وعلى نحوٍ منافٍ للمنطق، لا تشمل معاداة السامية الفلسطينيين، في حين أن يهود إسرائيل معظمهم من أصول غير سامية، جاؤوا اليها من بلدان أوروبية مختلفة مثل روسيا وبولونيا وفرنسا وغيرها… أما يهود إسرائيل الساميون فجاؤوها من بلدان عربية

توليفة معادة الصهيونية = معاداة السامية 
مسألة العداء للسامية تهمّ بالأصل أوروبا وامريكا بشكل خاص. ففي بلدان الاتحاد السوفياتي السابق وباقي الديموقراطيات الشعبية شكلت الإيديولوجية الصهيونية وإنشاء دولة إسرائيل عوامل هامة في بزوغ وتفاقم العداء للسامية. أما في البلدان العربية فنما عداء قوي للصهيونية لا يصل الى فكرة العداء للسامية. ويعود ذلك لسبب عميق هو عدم تقبل السكان الأصليين لمجموعات بشرية تمركزت على أرضهم، وادّعت أنها سكنت الديار في الماضي السحيق. بالإضافة أن هذه المجموعات تنتمي إلى العالم الأوروبي ولديها لغات ولهجات وقيم وعادات وسلوكيات مختلفة عن السكان المحليين، وبالرغم من أفعال الصهاينة التي نتجت عن كونهم محتلين وليست لأنهم يهود شياطين بطبعهم. ما جرى يتحمل مسؤوليته يهود صهاينة محددين وليس كل اليهود في الماضي والحاضر والمستقبل. ويخطئ الأوروبيون بالاعتقاد أن عداء العرب للصهيونية هو شبيه بالعداء للسامية على الشاكلة الهتلرية. وفي اعتبار أية كلمة توجه الى اليهود، تدخل في خانة العداء للسامية

وفند المؤرخ الفرنسي دومنيك فيدال الفرق بين الصهيونية بوصفها « حركة سياسية عنصرية »، وبين « معاداة السامية » التي يعتبرها القانون الفرنسي « جريمة لا تحتمل حرية الرأي »، فأصدر كتاباً بعنوان « معادة الصهيونية = معاداة السامية؟ ردّاً على امانويل ماكرون. وجاء في مقدمته « عندما قال ماكرون لن نتهاون مع معاداة الصهيونية لأنها مُخترع جديد لمعاداة السامية »، فقد ارتكب خطأً تاريخياً وخطأً سياسياً في آن. فهو خطأ تاريخي لأن معظم اليهود ليسوا صهاينة وقسماً منهم عارض فكرتها بالأصل، عدا أن كثيرين من معادي السامية يدعمون الصهيونية. وهو خطأ سياسي لأن منع معاداة السامية يستحدث في فرنسا جريمة رأي ترفضها الجمهورية من الناحية المبدئية. بالنسبة للكاتب باتت اللعبة مكشوفة. يريد البعض أن يمنع منعاً باتاً كل نقد للسياسة الإسرائيلية ». كالمعتاد عندما تُنتقد إسرائيل، انهال على الكاتب سيل من الردود المعادية لا تخلو من التهديدات المبطنة

السياسة الإعلامية لإسرائيل واللوبي الصهيوني في فرنسا
كذبت الصهيونية على نفسها وعلى العالم، واستمرت في الكذبة حتى صدّقها العالم أو يكاد، و بلغ من نفوذ الهيمنة الصهيونية على تلك سياسات العالم أنها استصدرت في فرنسا قانوناً يقضي بتجريم ومعاقبة أي شخص بتهمة عدائه للسامية إذا ما حاول المسّ بالإيديولوجيا الصهيونية أو بالسياسة الإسرائيلية وممارساتها بحق الفلسطينيين. تحوّل هذا القانون إلى سيف مسلط على رقبة من ينتقد إسرائيل، فقاضى مفكرين وفنانين فرنسيين أمثال روبرت فوريسون، موريس بيجار، ديودونيه، روجيه غارودي والأب بيار… لقد بنَت الصهيونية لنفسها جداراً يحصّنها ويخوّلها الانتقام مِن كل مَن يعاديها برميِهِ بتهمة العداء للسامية. وقد عبّر سيمون حسّون، وهو عضو في منظمة « الاتحاد اليهودي الفرنسي من أجل السلام » عن أسفه تجاه هذا الواقع، بكلامٍ نشره على موقع المنظمة: « يا للأسف! معاداة السامية لا تُطبّق إلا على الأشخاص القادمين من بلدان المستعمرات القديمة أو المنتمين إلى اليسار الراديكالي »
وبالعموم، تمارس إسرائيل وامتدادها المعروف باللوبي سياسة محاصرة وعقاب تجاه أي نشاط مؤيد لفلسطين. فحين لا ينجح تأليب الرأي العام الفرنسي على نجاحات عملٍ معيّن، أو لا يكفي قانون غيسو في الردع، يأتي الرد من الحكومة الإسرائيلية بشكل مباشر. هذا ما فعلته حينما اتخذت قراراً تأديبياً بحق سبعة مسؤولين سياسيين فرنسيين، دعموا حركة مقاطعة البضائع والأنشطة الثقافية الإسرائيلية بمنعهم من السفر إلى إسرائيل. وهم بيار لوران الأمين العام للحزب الشيوعي الفرنسي، وكليمونتين أوتين عضو البرلمان الفرنسي، والنائبان في البرلمان الأوروبي باسكال دوران وباتريك لوهياريك، ورؤساء البلديات باتريس لوكلير، إريك رولو، وعز الدين الطيبي. وبحسب صحيفة هآرتس، اتهمت الحكومة الإسرائيلية باسكال دوران بأنه نشر على الفيسبوك نص تقرير صادر عن « حركة مقاطعة إسرائيل » حول « العلاقات الخطرة بين المصارف الفرنسية والاحتلال الإسرائيلي »، وبأنه وقّع نداء يطالب فيه بإطلاق سراح السجينين الفلسطينيين محمد البرغوتي وصلاح أموري

ولإسرائيل ومؤيديها باع كبير في السيطرة على الإعلام. كشفه الصحافي الفرنسي الإسرائيلي شارل اندرلان الذي عمِل لمدة 34 سنة مراسلاً من القدس للقناة الثانية الفرنسية، حول كيفية عمل الإعلام الإسرائيلي والإعلام الفرنسي المتواطئ معه في تزوير الحقائق والوقائع، وآليات تدخّل الإسرائيليين واللوبي الصهيوني في الإعلام الفرنسي، وكيف يُفرَض على الصحافة استخدام مصطلحات بعينها، كمصطلح يهودا والسامرة بدل الضفة الغربية. ويقول اندرلان إن البروفسور الصهيوني اندريه ناهير الذي كان رئيساً لمؤتمر المثقفين اليهود الناطقين باللغة الفرنسية « كان يوصي بمنع أي انتقاد لإسرائيل. ويرى أن المنظّرين اليهود خارج اسرائيل الذين يقولون إن من حقهم انتقاد اسرائيل، ينزلقون من دون وعي إلى مآل يجلب أخطاراً مميتة لإسرائيل. وتوسع الصحافي الذي كان صهيونياً بفضح تدخلات إدارة التحرير مثل عدم بث مقابلة معينة، وصعوبة إقناعهم بأهمية ما يحصل بالمستوطنات، فالكلام بشأنها مغيّب. ومغيّب أيضاً الكلام عن الاستيلاء على الأراضي، وعن رماة الحجارة أو عن أوضاع المعتقلين الفلسطينيين…

     الفعل الثقافي لصالح القضية الفلسطينية يكسب جولات  
يبشّر الفعل الثقافي الداعم لفلسطين بترسّخ ملامح جديدة في صورة فلسطين لدى العامة الفرنسيين.  فبعدما كان تأثير الصهيونية بالغاً في رسم ما يحلو لها من ملامح، أخذ التأثير ينتكس أمام مجاهرة القائمين في نشاطات تدعم الحقّ الفلسطيني. وتنامي التجاوب لدى الجمهور الفرنسي لدعوات مقاطعة الأنشطة الفنية والثقافية والسياسية. كما نشهد حملات متنوعة تروّج لأهمية المقاطعة كأسلوب ضغطِ أثبت جدواه في افريقيا الجنوبية. فنرى مجموعات من الين تتمركز دورياً في ساحات المدن الفرنسية، ترتدي قمصاناً تُظهر خريطة لفلسطين على كامل التراب الفلسطيني، وتقدم الشروحات عن الأوضاع المأساوية السائدة في الأراضي المحتلة، وتطلق مبادرات عملية منها أخيراً، دعوتهم الى لصق علامة على البطاقات الصحية تشير إلى أن حامليها يرفضون الأدوية المصنعة في إسرائيل. 
وهناك مبادرات رمزية بليغة الدلالة، مثل اجهاض توجه انفتاحي على النخبة الشبابية. ومعلوم أن إسرائيل أوجدت وزارة للشؤون الاستراتيجية ووضعت لها وظيفة كسب ثقة الشباب، بعد الكثير من المؤشرات التي دلّت إلى أنهم باتوا في المقلب السلبي. وما حدث لسفيرة إسرائيل في فرنسا أليزا بن نون في 30 أذار 2017 يستحق التنويه: حين أتت لتقيم ندوة مع النخبة الشبابية لمعهد العلوم السياسية في مدينة رين الفرنسية. فاجأها الطلاب برفع شعار الحرية لفلسطين، ثم تناوبوا على قراءة بيان مقتضب وكانت المفاجأة الختامية، أن دُعيّ الطلاب للخروج… ففرغت القاعة من الحاضرين، تحت الأنظار المشدوهة للسفيرة ولقلة من الطلاب بقيت معها. 

ومن جهة أخرى، في نتيجة تعكس تزايد نفور القطاع الشبابي من المواقف الإسرائيلية، كشف استطلاع رأي أجرته مؤسّسة « إيفوب » في أيار 2018 نتائج لم تعجب مَن طَلبه، أي اتحاد الطلبة اليهود في فرنسا، المعروف في دعمه لإسرائيل. طال الاستطلاع 1007 شاباً في عمر بين 18 و 24 سنة، وكانت النتيجة مفاجأة: 57 % من الشباب بات لديهم نظرة سيّئة عن الدولة العبرية، ونسبة 52 في المئة منهم تعتبر الصهيونية ايديولوجية عنصرية. وأشارت أوليفيا زيمور المسؤولة في « الجمعية الأوروبية لمقاطعة إسرائيل » إن « هناك مؤشرات كثيرة تدل على ابتعاد الشباب اليهودي الأوروبي عن الحلم الصهيوني وعن تناقص جاذبية اسرائيل عندهم »
وفي حركة تضامنية مع الشعب الفلسطيني واستنكاراً لسلة الاحتفالات المبرمجة لمدة خمسة أشهر بمناسبة سبعين سنة على إعلان دولة إسرائيل، وقعت 80 شخصية فكرية وفنية على عريضة. أعلنوا فيها رفض ومقاطعة نشاطات موسم « فرنسا-إسرائيل 2018 التي حظيت بمباركة ودعم من أعلى المستويات الرسمية. واعتبروا « أنها عملية سوقية ومبتذلة تهدف لتلميع صورة اسرائيل ». وضمّت التواقيع كتّاب ومخرجين سينمائيين تصدرهم جان لوك غودار وسيمون بيتون ومصورين ورسامين وراقصين… غالبيتهم من أصول يهودية. وكانت جمعيات حقوقية فرنسية وعربية قد احتجت على استقبال فرنسا لبنيامين نتنياهو. ودعت إلى تظاهرة احتجاجية في باريس يوم الزيارة، مُعتبرة أنه « من العار استقبال سفّاح غزّة ». وكتبت صحيفة « الأومانيتيه » إنه « عار على فرنسا أن تفرش السجاد الأحمر لمجرم حرب »، وطالبت بإلغاء الموسم الثقافي برمته. والحال، أن بعض النشاطات قد اُلغيت وتعدّلت برامج بعضها الآخر بسبب امتناع فنانين عن المشاركة، وقامت جمعيات بنشاطات مقابلة تحت مسمى « وقت لفلسطين » في مواقيت بعض الاحتفاليات 

وازدهرت النشاطات الثقافية الداعمة للفلسطينيين منذ مدّة قصيرة. حفلات موسيقية وجولات عروض لأفلام وثائقية، ومهرجانات تراثية وفنية تجوب المدن والقرى الفرنسية. وقد أجريت تعداداً استندت فيه الى المواقع الإلكترونية لجمعيات فلسطينية/فرنسية فوجدت أكثر من 70 نشاطاً كبيراً خلال النصف الأول من العام الجاري 2018. ويصعب إحصاء عدد الجمعيات العاملة فهي تعمل بشكل لامركزي وتشكل تنسيقيات محلية تتشارك غالباً في الأنشطة. وتخرج بعض الإطلالات الثقافية من لغة خشبية سياسوية طغت على النتاج الفني والأدبي خلال عقود
وعندما أُنشئ معهد العالم العربي في باريس ازداد حجم الأنشطة الثقافية الفلسطينية في باريس. نذكر منها « معرض فلسطين » الذي أُقيم في شباط 2016. وأيضاً، في شباط 2017 معرض لمجموعة مختارة من الأعمال الفنية وُهبت لصالح مشروع المتحف الفلسطيني للفنون الحديثة. ومع ذلك بقي تأثيره فعله على الساحة الثقافية دون المستوى المأمول

مشاهد فلسطينية في مدن فرنسية بالإضافة إلى اتفاقات توأمة بين المدن الفرنسية والفلسطينية. نذكر منها: بيت لحم مع مدينة شارتر (Chartres)، غزة مع دنكرك (Dankerque)، نابلس مع ليل (Lille)، رفح مع (Saint Denis)، الخليل مع (Saint-Pierre-des corps)، مخيم بلاطة مع مدينة فالنتون (Valenton)… يرفرف علم فلسطين مع لافتة كُتب عليها باللغة الفرنسية « دعماً للشعب الفلسطيني » فوق بوابة دار البلدية في مدينة كراي (Creil) الفرنسية. ويخفق العلم الفلسطيني أيضاً، على واجهة بلدية فيلنوف سان جورج (Villeneuve-Saint-Georges)وفي الساحة الرئيسية لبلدية بورغونيه (Bourgogne). وفي مدينة أولناي سو بوا Aulnay-Sous-Bois يمتدّ علم فلسطيني كبير على طول الواجهة الزجاجية العملاقة لأضخم مركز تجاري. بلدية فيلريزي VilleRezé ذهبت إلى أبعد من ذلك فنكّست العلمين الفلسطيني والفرنسي وعلم الاتحاد الأوروبي، حداداً على الضحايا الفلسطينيين الذين سقطوا في مسيرات العودة السلمية. هذه المشاهد التقطت في مدن محددة، حيث هناك حضور بارز للفرنسيين من أصول عربية وتقف وراءها قوى اجتماعية وسياسية وثقافية. فالصورة لم تعد فقط رسماً بلا روح، بل هي وحركة فعل وانفعال في آن، فما مدى فعل مبادرات كهذه في تصحيح التشويه الذي لحق بصورة فلسطين على مدى سبعين عاماً من الزمن؟

خاتمة وخلاصات

حاولنا في هذا البحث مقاربة تاريخية سياسية وثقافية، فتبدت صور لفلسطين في حالةٍ من التشكّل الدائم. وخضعت إلى رسم وتشويه بسبب التباسها مع صورة إسرائيل في أذهان الفرنسيين. وبقدر ما كان التشويه الذي مارسته الحركة الصهيونية بحق صورة فلسطين سهلاً ويسيراً، بقدر ما يصبح اقتلاع هذا الزيف صعباً وعسيراً. فالذئب المحتل دأب على محو تراث فلسطين وإلغاء تاريخها، ولا زال يتنكر بثوب الحمل ويتهم الضحية الحقيقية بالإرهاب
وكان أول ملمح من ملامح صورة فلسطين تماهى بالكامل مع ما أوحته آلة التضليل الإعلامي الصهيوني: أنها « أرضٌ بلا شعب ». ودام غياب فلسطين عن الصورة الاجمالية للمنطقة حتى منتصف الستينات من القرن الماضي. ثم بدأت الأعين تتفتح على ملامح جديدة للواقع الفلسطيني. لكن الأخبار عنه بقيت مطموسة في الإعلام الفرنسي. وجاء استطلاع الرأي الذي جرى في 5 و6 حزيران 1967 معبّراً: 2 في المئة فقط من الفرنسيين يؤيدون العرب. تحسنت نسبة تأييد العرب بشكل طفيف: 16 في المئة وفق استطلاع رأي أُجري في 15 أكتوبر 1973. غير أن أسئلة جوهرية برزت بعد أن احتلت إسرائيل أراضٍ عربية جديدة، ثم اجتاحت لبنان عام 1982. شكّل ذلك انعطافة في إدراك النزاع الإسرائيلي العربي عند الفرنسيين. كما كشفت إنتفاضة الحجارة عام 1987 صمود الشعب الفلسطيني وثبتت في الأذهان صورة إسرائيل كقوة احتلال. وكانت الكراهية للعرب تمهّد لعملية تمثّل المسألة الفلسطينية في الإسلام. فاصطنعت البروباغندا الصهيونية بنجاح تقارباً بين معادة السامية والتعصب الإسلامي. فتشوشت صورة فلسطين، الضبابية أصلاً

لكن القضية الفلسطینية حظيت مع الزمن بشعبية أكبر، خصوصاً لدى الرأي العام اليساري. وشهدنا فيمابعد التسعينات تقبّل صنّاع الرأي المؤيدين لإسرائيل حقيقة وجود شعب فلسطيني وحقه في دولة، بعد أن تيقنوا أنها ماتت قبل أن ترى النور، بسبب سياسة الاستيطان التي اتبعتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة. وحملت السنوات القليلة الماضية تباشير ملامح جديدة في صورة فلسطين. وبدأ الفعل الثقافي الداعم لفلسطين يكسب جولات في النزاع على رسم الصورة الحقيقية، مستفيداً من خطايا الاحتلال وتعنت مواقفه. فازداد التذمر من سياسة إسرائيل القمعية، وتوسع ليطال شرائح جديدة. وتهيأت أرضية الرأي العام الفرنسي لتقبل ممارسة الضغوط على إسرائيل أكثر من قبل. يشهد على ذلك تزعزع الثقة بالحلم الصهيوني لدى الجيل الشاب، وازدياد نفورهم من إيديولوجية باتت عنصرية بنظر النخبة المتعلمة
والكسب الذي يحرزه التيار المؤيد لفلسطين يتأتّى من القواعد الشعبية والشبابية، والكسب السهل الذي أحرزه التيار المؤيد لإسرائيل في السابق، بدأ يهترئ، فيما عدا دوائر مرتبطة بالسلطة السياسية أو قيّمة على الإعلام. فلا زال السياسي الفرنسي الراغب بالوصول إلى السلطة، ينشد رضا ودعم ممثلين اللوبي الصهيوني. فنراه لا يتخلّف عن حضور العشاء السنوي للمجلس التمثيلي للمنظمات اليهودية. ولا زال المثقف والشرائح الشبابية المكتسبة حديثاً يحصر فعله في الجانب الإنساني. ولا يتخطى حواجز الخوف لكي يطالب على سبيل المثال بفرض ضوابط سيادية على انضواء اليهود الفرنسيين داخل الجيش الإسرائيلي، أو لما لا، بتغيرات جذرية في السياسة الرسمية لفرنسا الملائمة لإسرائيل. غير أن واقع حال الرقابة والعقاب عندما يتعلق بإسرائيل، لا يجعل مستغرباً أن تسأل مجموعة من المثقفين والفنانين في بيان صدر مؤخراً في جريدة  » ليبراسيون: « هل يحق للمثقفين الفرنسيين أن ينتقدوا إسرائيل؟ وأن ينددوا بازدرائها بالقانون الدولي في الوقت الذي يزداد فيه التعنت الإسرائيلي من خلال سياسة الاستيطان، والضم القسري للأراضي، وإعادة تشكيل طبيعة الدولة الإسرائيلية »

وفي المحصلة، لا زالت مسافة الفعل الثقافي والسياسي شاسعة حتى نصل إلى صورة نقية وصادقة  هي صورة فلسطين العلمانية الإنسانية 

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *